مكانة نابلس وهيبتها في الماضي والحاضر والمستقبل

Authors: 
أ. زهير الدبعي
Abstract: 

مدينة نابلس لعبت دوراً مميزاً في احداث فلسطين ووطن العرب، ولا يكف أهلها عن الشكوى لتراجع مكانتها ودورها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وربما لا تخل لقاءات من نقاش حول هذه القضية التي يعتقد النابلسيون بأن التراجع جرى بفعل مؤامرة كبرى. هذا البحث يطرح هذه الأفكار والمواقف للدراسة والتحليل، ويرى الباحث أن نابلس المحافظة والتي كانت تعرف بلواء السامرة في فترة الانتداب البريطاني الذي امتد من البحر إلى النهر ومن لواء الجليل شمالاً إلى لواء القدس جنوباً، لكن مساحة لواء نابلس لم تكن هي ميزته الوحيدة، ولا أهم مكونات مكانته التي عرفت بدور وطني وسياسي واقتصادي ومعرفي وثقافي بارز لا على صعيد فلسطين كلها فحسب وإنما على صعيد وطن العرب. وسيورد الباحث صوراً متعددة من مكانة نابلس في الماضي الذي استمر حتى مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي. وسيحلل روافد هذه المكانة الذي يعتقد أنها تغذت من
: 1الاقتصاد الذي تمثل في وجود ) 32 ( صبانة تنتج الصابون وتصدره إلى عدد من الأقطار، لما كانت الصبانات تمثله من قوة مالية كان بعضها يقوم بدور المصارف )البنوك( من إيداع وقروض. 2( المعرفة، فقد كان في نابلس مدارس دينية تخرج الأئمة والخطباء في مسجد العين )البيك( والجامع الصلاحي الكبير. فضلاً عن عدد كبير من خريجي الأزهر الشريف، والمدرسة الأحمدية في عكا، والجامع الأموي في دمشق، كما أن مدرسة النجاح النابلسية التي بادر إلى تأسيسها عدد من مثقفي المدينة في عام 1918 والتي تطورت لتصبح كلية النجاح الوطنية، ثم داراً للمعلمين في العام 1966 ، وجامعة النجاح الوطنية في العام 1977 . فضلاً عن مبادرات الشخصيات المدنية لتشجيع ومؤازرة طلاب العلم. كما أن المدرسة الصلاحية الثانوية في نابلس وغيرها من مدارس المدينة، كانت تحصد نسبة عالية من الأوائل في امتحانات الثانوية العامة على مستوى ضفتي الأردن قبل الاحتلال في حزيران من العام 1967
. 3 ومن ثمرة المعرفة ظهور منظومة من المثقفين والشعراء والأدباء كان لهم شأنهم من المحيط إلى الخليج
. 4 ما اتصف به زعماء نابلس من إلقاء خلافاتهم الفكرية والسياسية والعائلية والطبقية وراء ظهورهم إذا ما تعرض الوطن إلى تحديات و مخاطر. وتتجلى هذه الصفة الحميدة في مبادرة نابلس إلى تشكيل لجنة قومية في نيسان 1936 التي أطلقت شرارة الإضراب الكبير في فلسطين كلها، وما تلا ذلك من ثورة مسلحة تواصلت حتى العام 1939 . كما تجلت هذه الصفة الحميدة لزعماء نابلس أيضاً في الموقف الوحدوي التاريخي لكل القوى السياسية والطبقية فور احتلال نابلس في 1967 / 6/ 7 رغم ما كان بينهم من اختلافات عميقة وصراع. مما أثمر حماية الوجود العربي في نابلس، وعودة أهالي قلقيلية الذين هجرهم الاحتلال وبدأ بتدمير منازلهم
. 5الخطاب الديني ومعايير التدين التي كانت سائدة في الماضي كانت عامل وحدة وتواصل وتضامن بين كل أهالي المدينة وأطيافها وقواها الحية. وذلك لأن الخطاب الديني ومعايير التدين التي كانت سائدة في الماضي اعتمدت القدوة الحسنة، والكلمة الطيبة، وقوة الرأي العام كنهج للدعوة. ويعتقد الباحث ان الاحتلال هو السبب رقم 1 في إضعاف نابلس وتهميشها، لأنه احتل كل الساحل النابلسي في العام 1948 وسيطر على عدد كبير من القرى التابعة لنابلس في العام 1949 فيما يعرف بمنطقة المثلث التي سيطر عليها الاحتلال بعد اتفاقية “رودس” التي وقعت في شباط 1948 . وكذلك لأن الاحتلال تعمد سلخ مساحات واسعة جداً من ريف نابلس في الشرق والغرب والجنوب الغربي التي ضمها إلى جنين وطولكرم وأريحا. ليس محبة بهذه المحافظات الفلسطينية وإنما لغرض إضعاف نابلس ولتمرير خطط الاستيطان في الريف الغربي، والغربي الجنوبي الذي شهد تركيزاً وكثافة واضحتين. كما يعتقد الباحث أن قوى سياسية حرصت على )كبح جماح نابلس( من خلال سلسلة من الإجراءات والأساليب، وذلك في سياق إضعاف القوى المحلية وتشتيها وإثارة أو تشجيع الصراع فيما بينها. ولأن تراجع نابلس لم يكن نتاج عوامل موضوعية وإنما كان كذلك نتاج عوامل ذاتية تتمثل في أربعة مؤثرات هي: 1( تخلي زعماء نابلس عن إحدى صفاتهم الحميدة وهي تجاوز خلافاتهم في المنعطفات والاحداث التي يمر بها الوطن إيثاراً منهم للمصلحة الجماعية على المصلحة الشخصية والحزبية. بل إن الصراع بين بعض الزعامات ترك أثاراً سلبية على مكانة المدينة والمحافظة، بل هناك من عرفوا استغلال هذه الصراعات لتحقيق إضعاف وتهميش إضافي لنابلس
. 2تآكل مكانة الطبقة الوسطى ودورها لحساب دور الموظفين وغيرهم من الذين يتكلون في معيشتهم على المال العام تحت مسميات وتفسيرات عديدة. ويتضح ذلك من خلال معظم اعضاء المجلس التشريعي الذي جرى انتخابه في كانون الثاني 2006 . ومن المعروف إن إضعاف الطبقة الوسطى التي قادت نابلس ومحافظتها في العقد الأول من الاحتلال قد أدى إلى فقدان التوازن وكثير من الرشاد في ميادين اقتصادية وسياسية وثقافية وما لهذا الضعف من نتائج على مكانة نابلس وهيبتها
. 3رغم تطوير دار المعلمين لتصبح جامعة النجاح الوطنية في العام 1977 ، ورغم تطوير الجامعة افقياً وعمودياً ودورها البارز في انعاش نابلس على أكثر من صعيد، وهي انجازات كبيرة جداً، فإن مكانة نابلس التربوية والتعليمية والثقافية قد تراجعت، فلم تعد في المكانة الأولى من حيث جودة التعليم ونوعيته، ولا من حيث الفعل الثقافي وبروز قامات ثقافية مرموقة
. 4 لم تعد نابلس )عاصمة فلسطين الاقتصادية( إلا من باب )الضريبة الكلامية( والشعارات المفرغة من المضمون. فلا يوجد في نابلس أي من الإدارات الإقليمية للبنوك العاملة، ولا الشركات الكبرى حتى تلك التي جرى تأسيسها في نابلس وجرى نقل مقارها إلى مدن أخرى رغم وجود شخصيات نابلسية لامعة جداً لها نفوذ استثنائي في رسم سياساتها التجارية والإدارية 5( إن عسكرة الانتفاضة الأهلية اللاعنفية التي أطلقها شعبنا في 1987 / 12 / 9 بعد مرور حوالي ) 20 ( شهراً من إطلاقها وأدائها المرتفع المؤثر والايجابي. إن عسكرة الانتفاضة خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت اتفاقية أوسلو وما أفرزته العسكرة من قبلية وعنف ولا عقلانية وفساد كان لها أوخم العواقب على الحياة اليومية للمواطنين وبخاصة الاقتصاد والتعليم وسيادة القانون والاخلاق. وندرك ما تعرضت له نابلس من أذى وأضرار إذا عرفنا أن العسكرة عضت نابلس حتى العظام حتى ان نابلس أسرفت أضعاف مما فعلته المحافظات الأخرى، فلم تكتف بما فرضه عليها الاحتلال لأيام طويلة من منع التجول وإنما زادت الاعباء في ايام حداد كثيرة عطلت الحياة التعليمية والاقتصادية فضلاً عن الأنشطة الاجتماعية والرياضية والثقافية. وكثيرة جداً هي الشواهد التي تؤكد ان نابلس تعرضت إلى استهداف استثنائي من الاحتلال من خلال جرائم القتل وهدم المنازل بالجملة وحصار خص الاحتلال به نابلس. وهذه كلها تركت على نابلس مزيداً من الإقصاء والتهميش. وبصورة عامة لا تبقى المدن على مكانتها وهيبتها ودورها لأن صفات مشتركة تجمعها مع البشر الذين يؤسسونها ويضعفونها. فالمدن كالبشر، كما أسلفت، تبتسم وتعبس وتتجهم وتمرض وتضعف وتموت، وقد تنهض من جديد أقوى مما كانت عليه فالجدران والآثار والتاريخ لا تحمي المدن، وإنما البشر الذين قد يغيرون هوية المدن بصورة جزئية أو كلية كما جرى للقسطنطينية في العام 1453 فتحولت من عاصمة ومركز للكنيسة الشرقية وحاضرة أوروبية مرموقة إلى عاصمة للدولة العثمانية وحاضنة للسلطان الذي كان يمثل المسلمين في العالم. وكذلك غرناطة بعد أن استولى عليها فيرنالدو وايزابيلا في العام 1492 لتطوى حضارة العرب والمسلمين ليس في الاندلس فحسب وإنما في العالم كله. وبناء عليه فإنه لا وجود لمدينة أو منطقة ولا حتى قطر ودولة تسطيع المحافظة على مكانتها ودورها وهيبتها رغم تغير الظروف والأحوال، كما أنه في نفس الوقت يمكن استعادة الدور والوظيفة المتميزة بالتشخيص العلمي والجهد الجماعي والعمل المؤسسي وبقدرتنا على ترجمة عواطفنا إلى جهود وأفعال تتراكم وتثمر. ولا يخامرني شك ان التخلص الكلي والنهائي للعسكرة نتيجة لإدراك مخاطرها المميتة، وكذلك نتيجة التزامنا الواعي باللاعنف كواجب على كل مواطن وكفرصة لكل الرافضين للظلم والاحتلال في هذا الكوكب. إن طريق اللاعنف الذي أطلقت عليه في العام 1994 )المقاومة المثمرة( التي هي مقاومة كل الناس بكل أطيافهم وقواهم الحية وفئاتهم العمرية. إن نظرة إلى دور نابلس، وغيرها من المحافظات، في المقاومة المثمرة هو الانجاز الأكبر والأغلى لمقاومة وتضحيات أجيال شعبنا وأمتنا، وفي نفس الوقت فإن المقاومة المسلحة، رغم بطولة وتضحيات وعظمة كثير من الذين عملوا في صفوفها منذ منتصف القرن التاسع عشر، فإنها أفرزت لنا عسكرة المجتمع والحياة اليومية وما تفرضه من الحاق الأذى العميق بالتربية والتعليم والاقتصاد والنشاط الثقافي والمعرفي، وبالطبقة الوسطى، ومعايير تدين، وهذه كلها عوامل أثمرت مكانة نابلس وهيبتها في الماضي، وقادرة على استعادة مكانتها وتجديد هيبتها في المستقبل في إطار انتمائها الفلسطيني والعربي والانساني.